القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق
القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق
    |         |         |    

 (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى: {سأصليه سقر} (المدثر: ٢٦) - فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إن هذا إلا قول البشر} (المدثر: ٢٥) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر) .
ش: هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس. وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.



وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:

أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه، وهذا قول المعتزلة.
وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبريه كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه، كالأشعري وغيره.
ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما، وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.

وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه.
وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
وقول الشيخ رحمه الله: وإن القرآن كلام الله. إن بكسر الهمزة - عطف على قوله: إن الله واحد لا شريك له ثم قال: وإن محمدا عبده المصطفى. وكسر همزة إن في المواضع الثلاثة، لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله.
وقوله: كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا: - رد على المعتزلة وغيرهم. فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه! وقولهم باطل
فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره - فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقا.


مذهب أهل السنة والجماعة في صفة الكلام
والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص. قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا} (الأعراف: ١٤٨) . فكان عباد العجل - مع كفرهم - أعرف بالله من المعتزلة، فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضا. وقال تعالى عن العجل أيضا: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} (طه: ٨٩) . فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم؟ فيقال لهم: إذا قلنا أنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم. ألا ترى أنه تعالى قال: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} (يس: ٦٥) . فنحن نؤمن أنها تتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم. وكذا قوله تعالى: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} (فصلت: ٢١) . وكذلك تسبيح الحصا والطعام، وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة، المعتمد على مقاطع الحروف.
وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: منه بدا بلا كيفية قولا، أي: ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به. وأكد هذا المعنى بقوله قولا، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: {وكلم الله موسى تكليما} (النساء: ١٦٤) . فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ! ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة: أريد أن تقرأ: وكلم الله موسى، بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف: ١٤٣) ؟ ! فبهت المعتزلي!


ثبوت تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم
وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) ، فعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) ، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم، ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره [عليهم في ديارهم] » . رواه ابن ماجه وغيره. ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحدا، وقد قال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} (آل عمران: ٧٧) ، فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهو الصحيح، إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: ١٠٨) ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين، لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلا. وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة، وساق فيه عدة أحاديث. فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى، وتكليمه لهم. فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به.


‌كلام الله صفة له وليس بمخلوق
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (الرعد: ١٦) ، والقرآن شيء، فيكون داخلا في عموم كل فيكون مخلوقا! ! فمن أعجب العجب. وذلك: أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم كل، وأدخلوا كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر} (الأعراف: ٥٤) . ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقا لزم أن يكون مخلوقا بأمر آخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل، وهو باطل. وطرد باطلهم: أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وكيف يصح أن يكون متكلما بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود: {أنطقنا الله} (فصلت: ٢١) ، ولم تقل: نطق الله، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا! ! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية، فقال ابن عربي:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه!

ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير: أعمى، وللأعمى: بصير! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره، والأعمى قد قام وصف البصر بغيره! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك.

 


جميع النصوص